الجمعة، 27 فبراير 2015

صراع التعريب وصيانة الهوية والوحدة الوطنية (ح 3)






 


كانت تلك هي ردود الفعل الرسمية على إضراب بعض التلاميذ المنحدرين من ضفة النهر ضد إجبارية اللغة العربية في التعليم، ومنشور التسعة عشر المؤيد لهم.
أما ردود الفعل الشعبية فقد كانت غاضبة في محيط تلاميذ وموظفي البيضان وفي أوساطهم الشعبية كذلك. وكان من بينها، إضافة إلى المنشور الذي وزع يوم 2 فبراير تحت عنوان "صوت التلاميذ الموريتانيين أو صوت الشعب" وورد مضمونه في كتاب المختار رحمه الله، حيث اعتبر "أن القطيعة التامة والنهائية بين العرقين هي المرهم الوحيد لضمان مستقبلنا" تلك المظاهرات الصاخبة التي خرج فيها التلاميذ وبعض الموظفين والتجار في مدينة أطار؛ والتي كنت أنا والأستاذ أجودنا ولد المحفوظ والسيد أحمد سالم ولد اعليه - رحمهما الله- من بين قادتها، ورفعنا فيها شعارات تنادي بترسيم اللغة العربية، وقدمنا في نهايتها ملتمسا شديد اللهجة إلى والي آدرار. وكان يومها السيد التجاني كان، رحمه الله.
كانت نواكشوط يومئذ تغلي. وقد أصبحت هي وما يرتبط بها من مدن البلاد في حالة استنفار وترقب وقلق شديدة. كتب إلي يومها الشاعر أحمدو ولد عبد القادر من نواكشوط تقريرا من جملتين مع صديقنا الأستاذ اباه ولد الرباني عضو مكتب نقابة المعلمين العرب رحمه الله، هذا نصه: "الأخبار عند اباه، والمستقبل بيد الله". وقد زاد الطين بلة وجود أيد خفية تتلاعب بمصير موريتانيا. بينما جرى تراخ وتقصير خطير في التعامل مع الأزمة في بدايتها من طرف أجهزة الحزب والدولة (وخصوصا أجهزة الأمن الناشئة) اعترف به صراحة الرئيس المختار ولد داداه - رحمه الله- حين قال: "وبكلمة واحدة فإن جهاز الدولة كله لم يقم بدوره المطلوب، وكان الكل مسؤولا عن ذلك الوضع الخطير الذي كان بالإمكان تلافيه لو قام كل إنسان بواجبه. لقد قصرنا جميعا في أداء واجبنا عن غير قصد؛ متناسين أن من يسوس بلدا عليه أن يتقن فن التوقع. ولا شك أن بداية تعريب التعليم لن تسلم من بعض المظاهرات والعداء نظرا لما اتسمت به تلك المشكلة من تسييس ولما لها من طابع عاطفي؛ فضلا عن كون تلك المظاهرات موجهة، ولو جزئيا، من قبل جهات غير موريتانية فرنسية وسنغالية". 
ترى، هل كان التلاميذ المضربون، والتسعة عشر الذين أيدوهم، ونحن الذين تزعمنا ردة الفعل المتمثلة في الدعوة إلى إضراب عام مضاد، وبعض تلاميذ الثانوية الوطنية البيضان، مجرد بيادق في لعبة كبار أديرت من وراء ظهورنا وكنا جميعا ضحاياها رغم حسن النية ونبل الغايات؟
سنحاول الرد على هذا السؤال ضمن أسئلة أخرى، في نهاية هذا العرض. ولكن ما نستطيع استنتاجه ببساطة هو أن اختيار العشر الأوائل من فبراير موعدا للإضراب الشامل الذي دعونا إليه، لم يكن صدفة، لتزامنه مع غياب رئيس الجمهورية عن نواكشوط في زيارة رسمية طال انتظارها إلى مالي صحبة وفد مهم يضم محمد ولد الشيخ وزير الخارجية والدفاع، وكان ألمان وزير التعليم، وممادو صنبا بولي با رئيس الجمعية الوطنية. وقد تم اختيار يوم التاسع (9) من فبراير موعدا للإضراب باقتراح من تلاميذ الثانوية الوطنية الذين شكلوا رأس حربة الاحتجاج. ولم يكن من اختيارنا نحن في المدينة. كما لم نكن على علم مطلقا بموضوع المناوشات التي يبدو أن تلاميذ البيضان قد أعدوا لها العدة ونفذوها مساء الثامن من فبراير عندما كنا نحن نقوم بتوزيع المنشور الداعي إلى الإضراب، والإضراب فقط. الأمر الذي يجعلنا نتساءل هل كان تلاميذ الثانوية البيضان قد غرر بهم بدورهم من طرف بعض أجهزة الدولة وأجنحتها المتصارعة، كما غرر بزملائهم من لكور من طرف بعض تلك الأجهزة والأجنحة ومن طرف غيرها مما أشار إليه الرئيس المختار آنفا؟
ولنعد إلى مجرى الأحداث. لقد كانت نقابة المعلمين العرب وعناصر من نقابات أخرى هم من دعا إلى الإضراب يوم 9 فبراير بتنسيق مع تلاميذ الثانوية البيضان الذين اختاروا ذلك التاريخ؛ ولكن منشور الدعوة إلى الإضراب أعد من طرفنا نحن الاثنين: الأستاذ أحمدو ولد عبد القادر وأنا، وتم توزيعه مساء من طرف فريقين: فريق في العاصمة يتكون من الأستاذ أحمدو ولد عبد القادر ومحمدن ولد عابدين الملقب بدن (تلميذ). وفريق في لكصر يتكون مني أنا ومحمد الحسن ولد لبات (تلميذ). وكانت علاقة هذين التلميذين بنا وبحركتنا ولا علاقة لهما بحركة تلاميذ الثانوية التي يقودها كبارهم من أمثال محمد المختار ولد الزامل وممّد ولد أحمد وحبيب الله بن عبدو ويحي ولد عمر وسيدي محمد ولد سميدع. وبينما كنت أنا ومحمد الحسن على وشك إنهاء مهمتنا بنجاح حوالي الساعة العاشرة، فوجئنا بنداء ينطلق في عنان السماء من بوق مسجد الإمام بداه ولد البوصيري وكان يومها المسجد الوحيد في لكصر. كان صوت المنادي قويا وحادا وكان يتكلم الحسانية بطلاقة ويدعو إلى الفتنة والوقيعة بلكور ويحرض عليهم البيضان، ومن بين ما قال إن تلاميذ البيضان هوجموا وضربوا في الثانوية الوطنية مساء تلك الليلة من طرف تلاميذ لكور ويجب الانتقام لهم.
يا لها من صدفة غريبة لولاها ما كنا لننتبه، ولظلت دوائر شك وغموض تحيط بهذه القضية، دون أن نمتلك دليلا ماديا قاطعا على دور بعض أجهزة السلطة في تأجيج الفتنة يومئذ. ركضنا إلى المسجد الذي لم نكن بعيدين عنه، وما إن وصلنا إليه حتى خرج المحرض وزميله وتوجها إلى سيارتهما المتوقفة بباب المسجد. سلمنا عليهما فارتبكا وتملصا منا بسرعة وركبا سيارتهما القديمة وانطلقا يسابقان الريح. بيد أننا تعرفنا على المتكلم في البوق وهو موظف معروف وثيق الصلة ببعض أجهزة الدولة، فعرفنا أن وراء الأكمة ما وراءها.
نعم. لقد اندلعت عند حلول مساء يوم 8 من فبراير مشاجرة بين تلاميذ الثانوية الوطنية خلفت جروحا طفيفة، قيل إنها من تدبير بعض تلاميذ البيضان الذين وزعوا منشورا ذلك المساء يدعو تلاميذ البيضان إلى الإضراب. وسرعان ما تمت السيطرة على الوضع في الثانوية من طرف فرقة من الحرس كانت على علم مسبق بالمشاجرة، حسب ما ذكره الرئيس المختار رحمه الله في كتابه، دون أن تحول دون وقوعها. وفي صبيحة يوم التاسع (9) من فبراير "حدثت صدامات عنيفة بين العنصرين في عدة أحياء من العاصمة كانت حصيلتها ثقيلة للأسف إذ بلغت 6 قتلى و70 جريحا" حسب ما أكده الرئيس المختار في كتابه المذكور وتحدى من يثبت غيره. ويقال إن البداية كانت في الصباح الباكر حين احتشدت جماهير من الفريقين أمام الثانوية الوطنية يحدوها القلق على مصير أبنائها التلاميذ، ثم انفجر الوضع.

كنت أسكن في الحي "ج" من العاصمة وكنت أتهيأ للخروج لمعرفة مدى تأثير الدعوة التي أطلقناها إلى الإضراب في المدينة، فإذا بالضجيج والصراخ وأصوات القنابل المسيلة للدموع تملأ الأفق. ولما خرجت من بيتي كانت تدور في الشارع الرابط بين "بلوكات" وقيادة الحرس مناوشات بين قوى نظامية وجماعات من البيضان بمختلف أطيافهم تجوب الشوارع وتتحدى حظر التجمهر باحثة عن أهداف من المكونات الأخرى، وكانت قوى من الجيش والأمن تشتبك معها وتعمل على تفريقها وتمطرها بوابل من مسيلات الدموع، وكانت بعض النسوة يجلبن الماء والخرق المبللة للتغلب على مفعول مسيلات الدموع. ولم أر شخصيا - فيما أذكر- مواجهات بين المواطنين أنفسهم، ولا عدوان بعضهم على بعض. أما أخي وزميلي الأستاذ الشاعر أحمدو ولد عبد القادر فقد روى لي أنه كان صحبة أعضاء مكتب نقابة المعلمين العرب، وقد توجهوا بكرة إلى منزل زميلهم المرحوم الأشياخ ولد ودادي حيث أقاموا مأدبة وقرروا المقيل تنفيذا للإضراب، ومن هناك كانوا سيتابعون أخبار الإضراب ومدى نجاحه. وبينما كانوا يستعدون لتناول وجبة "أطاجين" شهية إذا بالاشتباكات التي دارت في أحياء عديدة من العاصمة تجتاح الحي "أ" الذي يوجدون فيه. وقد اشترك بعضهم فيها واعتزلها بعض من ضمنه هو.
وقد تدخل الجيش وقوى الأمن ـ ربما بعد حين ـ بأمر من نائب الرئيس وزير الداخلية والإعلام أحمد ولد محمد صالح ففض الاشتباكات وطوق المدينة وسير دوريات دائمة لحفظ النظام.
كان الرئيس المختار ولد داداه في ذلك الوقت لا يزال في باماكو التي غادرها ضحى ذلك اليوم دون أن يكون على علم بوقوع تلك الأحداث المؤلمة، ولا حتى بأحداث الثانوية التي جرت الليلة البارحة. وفي طريق العودة تم إشعاره بما حدث وهو في الجو في طائرة "د. س. 4" التي كانت تقل وفده، وقد اقترح عليه مدير ديوانه المساعد السيد أحمد بزيد ولد أحمد مسكه في اتصال من برج المراقبة في نواكشوط أن تهبط به الطائرة في مكان آخر غير نواكشوط. إلا أنه رفض ذلك الاقتراح، متحديا كل الأخطار، وأمر محدثه بإعداد مراسيم الاستقبال المألوفة بالمطار قدر المستطاع، ونزل في مطار نواكشوط عند الساعة الثانية عشرة والنصف زوالا.
وهنا يجوز لنا أن نتساءل عما إذا كان ما حدث ذلك اليوم قبل رجوع الرئيس إلى أرض الوطن مجرد فتنة عنصرية تضافرت أشراطها في غفلة من الشعب والحكومة، أم إنه مؤامرة سياسية لها أبعاد تتجاوز ذلك بكثير؟

فمما لا شك فيه أن هناك عناصر تعزز مثل هذه الشكوك، وتدفع إلى أبعد من ذلك حين نرى الأزمة تسير في اتجاه آخر، يرشحها لأن تكون ذريعة لانقلاب على الرئيس المختار ونظامه. ومن بين تلك العناصر ما يلي:
ـ اختيار توقيت الإضراب المضاد ليتزامن مع فترة غياب الرئيس.
ـ اصطحاب الرئيس الحازم للجناح الراديكالي في الأزمة (محمد ولد الشيخ كان ألمان ممادو صنبا بولي با) معه في زيارته وتركه الجناح المحافظ طليق اليدين في الساحة:
إذا ما توقى جانب الروع راعه ** من الجانب المأمون ما كان يحذر!
ـ علم قوى الأمن المسبق باشتباكات الثانوية، وعدم حيلولتها دون وقوعها.
ـ الدعوة التي أطلقت من مسجد بداه.
ـ عدم إخبار الرئيس بما جرى في الثانوية. والتأخر في إبلاغه بالأحداث وهو ما يزال على الأرض.
ـ اقتراح الديوان الرئاسي على الرئيس أن لا ينزل في نواكشوط.

ـ كون هذه الأحداث قد جرت قبل تصالح موريتانيا مع المغرب وفي ظل مطالبته بضمها.

يتبع



بقلم: الاستاذ محمد اشدو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق