الأربعاء، 6 أغسطس 2014

لقد مات أبونا قبل هذه المرة (قصة قصيرة)


خرج ذات مساء من قريته الوديعة،باحثا عن بقرة أهله حديثة العهد بالولادة،المتخلفة عن بقية الأبقار، خرج ومهمته التي استنهضه الأهل لأجلها هي العودة بالبقرة {أم اصكيعة}وولدها الصغير، قبل أن يطالهما بطش المفترس الناشط في المنطقة {كرفاف}.
أخذ الفارس محمد بلجام فرسه {لغزالة} المميزة والمعروفة بتناسق الحركات وتناغم العدو،اعتلى صهوتها وانتشى طربا ؛واسترخى لما داعبه النسيم الخريفي؛في أكثر المناطق الموريتانية خصوبة "ولدينج" انطلقت لغزالة وخطاها ترسم الإبداع الحركي على الثرى المبلل ؛ بماضي مطر حديث عهد بالمنطقة؛استمر فارسنا في رحلة بحثه والانتشاء يغمره؛تتالت خطا لغزالة وزادت النشوة في نفس فارس الفرسان وفتى الفتيان،وفي أسرع من انطلاقة الأرنب الذي انطلق من أمامه مذعورا؛قرر فارسنا تغيير مساره من البحث عن البقرة وصغيرها إلى رحلة سياحية مسائية لا يكون لها سابق نظير فقرر التوجه إلى قرية"اندملي" التي تبعد عنه عشر كيلومترات ؛حيث الكثبان الرملية الذهبية تعانق هضبة لعصابة؛ تحديدا"عدلت السماء"وحيث النسيم العليل واللوحة الطبيعية البديعة؛ذات الجداول المنسابة والخضرة الطاغية،انطلق فارسنا إلى وجهته الجديدة؛وكله حماس ونشوة وفخر واعتزاز؛يحدث نفسه تارة؛بالأحاديث التي يتوقع أن تدور بينه وبين مسامريه؛ويفترض ثم يتصور طبيعة الحوار؛ ثم يضحكه ذلك وهو لازال في الخلاء.. وفي لحظة شرود رفع بصره فإذا ببياض .. آه إنها خيام في الطريق .. إنهم أهل الإبل "النجامة" تسارعت إليه هذه العبارات فأسرع في اتجاه الخيام عله يلهو بسمرهم الرائع ويغنيه عن سمره الذي كان ينشده في "اندملي" والذي لم يقطع إليه نصف المسافة بعد..اقترب ناحية الخيام ونفسه تحدثه ؛بلبن الإبل وفتيات يتقن صناعة الشاي ويجدن الحديث السمري ويحفظن رصيدا وافرا من الأشعار الشعبية ؛ التي تجعل الليل في أبهي حلة...اقترب ثم اقترب ووصل ثم ألقى السلام وبعد رد السلام نزل من فوق فرسه وتقدم فإذا بجماعة من النسوة يغمرنه بالترحيب ...جلس وأرخى عضلاته واستلقى جيدا بعدما رمى ببصره في كل الاتجاهات ولم يشاهد مع النسوة رجل ... جلس وهو يردد في نفسه ؛إذن هم يبحثون عن أنيس يطرد عنهم وحشة الليل في هذا المكان الجميل الهادئ ؛ القليل النزلاء ، انطلقت رحلة الشاي بعد ما أطلق صاحبنا العنان لنفسه في شرب لبن الإبل ؛ الذي قدم له في قدح خشبي "كدحة من يطة" توالت الكؤوس مسرعة على غير رغبة صاحبنا ؛ الذي لا يريد للشاي أن ينتهي ولا يريد لليل أن ينجلي ؛ ولا يريد لهذه الوجوه المشرقة من أمامه أن تختفي ؛ أراد فارسنا أن يبدي رأيه حول طبيعة السهرة المفترضة واقترح مواصلة الشاي ؛ وتلمس منهن بعض الأشعار أو ما يدفع إلى قول ذلك؛ وبدأ طرق الباب بوصفه شاعر وأديب {أمغن ؤ جابرموجب}.. لكن الذي لم يكن في حسبان صاحبنا؛ والذي لم يكن يتمناه في هذه الليلة بالذات حصل عندما عاجلته النسوة بصوت شبه موحد؛ عندنا ميت "جنازة بونا " في تلك الخيمة التي تقابلنا ونريدك أن تبيت معه حتى الصباح علنا نجد جماعة من المسلمين ؛ لتغسيله وتكفينه ودفنه..
اندهش صاحبنا وتقلبت ملامحه وتصبب عرقه رغم لطافة الجو وطيب النسيم .. وبعد مطاردة ذهنية للأفكار قرر الفارس أن يبيت مع الميت إذ لابد له عن ذلك ؛ فهؤلاء نسوة وهو الرجل الوحيد بينهم هذه اللحظة ؛ إذن تعينت المسؤولية .. ذهب الرجل إلى الخيمة المذكورة وألقى نظرة على الأب الميت ؛ عن بعد طبعا ؛ ثم آوى إلى فراش غير بعيد عنه ؛ وضع بجانبه علبة السجائر{كونكرس} التي لا تفارقه ؛ ولأنه مدمن عليها لم يثنيه المشهد عن إشعال عود منها، ثم عمد إلى تشغيل جهاز الراديو الصغير؛ الذي يحمله معه أينما حل وارتحل ؛ ولأن الوقت من الليل قد تأخر تذكر بيت الصداقة وضبط المذياع على إذاعة البحر الأبيض المتوسط{ مي.دي.1 } وقرر متابعته المألوفة لهذا البرنامج ؛لكن بتأدب مع الميت الذي بجنبه ؛ حيث خفض الصوت جدا جدا ، بقي فارسنا يتابع برنامجه لكن بذوق مختلف عن سابق الليالي؛ حيث النوم قرب ميت لا يعرفه في مكان كان يبحث فيه عن النشوة والطرب وأنس السمر... تقدم الليل وازداد سكونه وانقطعت الأصوات عن صاحبنا إلا صوت مذياعه الذي لا يكاد يسمعه وبعد برهة نام صاحبنا قرير العين ولم يوقظه إلا العجوز "الميت" ينادي بصوت مبحوح {أندور نشرب} ،وبعد أن فشل في تجاهل الصوت ؛ارتفع صاحبنا الفارس عن الفراش في أشد أنواع الاستيقاظ إزعاجا ؛ وأكثرها استجابة وتفاعلا وطردا للنوم، أسرع الفارس نحو خيمة الفتيات تاركا العجوز المعاق يزحف خلفه ؛ وهو طبعا لا يريد أن يلتفت إليه ؛ وصل الخيمة فإذا بالفتيات مستيقظات لم يتسلل النوم إلى أعينهن حتى اللحظة أخبرهم الخبر ؛ بسرعة البرق وتلعثم المذعور.. اندهشت الفتيات وأجبنه بفم واحد سبق وأن حدث له هذا لقد مات من قبل {كط خلكت لو داس ؤ شكينا انو مات واعكب كام} .. وقفت الفتيات إلى أبيهن فرحا بعودته ؛ يحملن إليه الشراب .. أما فارسنا فقد أطلق العنان للسانه بعد جواب الفتيات له ؛ سبا وشتما {يحرك كلكم بيو ؤ بي ذاك ماتعودوا كلتولي عن بوكم ذا كيفو} ، أخذ لجام فرسه دون أن يودعهم وظل يسير أمامها دون ركوب في ذلك الوقت المتأخر من الليل وفي ذلك المكان الموحش ؛ دون أن يشعر أنه ترك مذياعه ؛ الذي لا يفارقه أصلا رفقة سجائره التي توهمه بالراحة والطرب وتبعد عنه الهموم وتطرد عنه الغضب والانفعال كما يتصور..قطع المسافة ووصل إلى حيث منطلقه وحيث قريته الوديعة {لعوينات} ذات الواحات الصغيرة الجميلة ؛ التي تميزها عن غيرها ، وصل إلى بيت أهله دون أن يشعر أو ينتبه إلا بعد أن استيقظ في الصباح  ؛ حيث أدرك أنه قطع كل تلك المسافة عائدا دون حذاء حيث تركه مع السجائر والمذياع في مكان الوقيعة عندما اختلطت عليه المشاعر واضطرب الشعور..

عثمان جدو / كاتب وناشط حقوقي . 

هناك تعليق واحد:

  1. هههههه.. فارس بني خيبان!!
    قصة خفيفة الظل، بديعة التصوير، شريفة المعنى. واصل..

    ردحذف