السبت، 14 مايو 2016

التعليم في أسر العـبثية والقدرية والفوضى

 
أقل من أربعين عاما هي المدة التي كانت كافية لشعب "فيتنام"، الذي عركه مستعمران بشعان الفرنسي والأمريكي، ليخرج على التخلف المزمن والفقر المدقع والجهل المقيد نمرا جديدا وطموحا من نمور آسيا ويزدهي عاجلا بتحوله من وضعية الحضيض إلى موقع المنافس.
وجدير بالذكر ومن باب التقدير الكبير لإرادة الشعوب وهمتهم إن تفجرت أن لغة الشعب الفيتنامي، الذي انهكته حربه التحررية الأسطورية الطويلة، لم تكن يومها قادرة أن تعبر لشدة عجزها حتى عن تواصل سليم، ولم تكن تمتلك أدبا نوعيا فضلا عن مستوى علمي ومعرفي يعين على تحقيق اكتفاء وبناء استقلالية، إلى أمة علم واختراع وإبداع تنافس أكثر الدول نموا وتطورا وبلغة راقية أضحت ملمة ومحيطة بتألق مشهود العلوم العصرية في إثبات للخصوصية التي انتشلت من ضعف الحضور إلى تألق المشاركة.
وفي البداية جرب "الفيتناميون" كل المناهج التعليمية المتداولة من حولهم ولم تفلح السياسات التعليمية التي كانوا يضعونها من وحيها بارتجال وتسرع. وعلى الرغم من أن عدد خريجي هذا التعليم الأكفاء كان يتزايد، فقد لاحظ قادة الفكر والسياسة أن مردوده في العملية التنموية الشاملة لم يكن يلبي المتطلبات الكثيرة للدولة الفتية، وضعوا جانبا كل خلافاتهم الأيديولوجية العميقة جنبا و اصطلحوا على ضرورة صياغة خارطة طريق تربوية متماسكة تعتمد على بناء اللغة الأم و الاعتماد على اللغات الحية العالمية  و تكييفها مع المناهج الصحيحة لتصحيح المنطلق إلى الدولة القوية التي تبدأ مسارها التصاعدي فوق أساس متين أعد لمردود مواطنيها العلمي و الفكري و لكفاءتهم المؤطرة و المحصنة.
لم تعرف موريتانيا في يوم و عبر تاريخها، الذي لم يكتب عنه إلى من القرن الحادي عشر مع نشأة حركة المرابطين و دخول الاسلام، حكما مركزيا ملكيا أو سلطانا أو أميريا أو جمهوريا أو اتحاديا، ولم تنعم مطلقا باستقرار الكيانات الموحدة أو عرفت هدنة تؤرخ لانسجام ولو كان عابرا، ولا نحت شعبها تحت أي ظرف معالم دولة لها جيش و حصون و مرافق و حدود معلومة، و لا نظام التوظيف و الرواتب، و لا السجون للعقاب، و لا الأسواق و أحوالها و جباياتها و تبادل صناعات أهلها، و لا المدارس التي تعلم الحرف و الصنائع و تمد حركة العمران بالبناة و المخططين؛ حقيقة لا مراء فيه رغم ما يريد له بعض أهل التاريخ الممجدين دون الغربلة و النقد و التمحيص أن يكون إثباتا للوجود المكتنز معالم التحضر و النظام و الخصوصيات الغير محسوبة بموازين الحركية و العطاء و الانفتاح.
وأما أول دولة مركزية تنبذ الصراع على نفوذ التشتت للتجمع في كيانات صورية لا حدود لها إلا في اللفظ العامر بالصورة والبلاغة، فقد ولدت وتجسدت على يد المستعمر الفرنسي وتحديدا مع منظره "كزافييه كبولاني Xavier Cappolani" الذي وضع الجغرافيا وأعطي الاسم وقرر المراحل والأهداف. كما تأسست كذلك بوادر المدرسة الجمهورية التي تنتمي إلى كيان عَرف وعمل بالحكم المركزي والحدود الجغرافية والمرافق المرجعية والعمل التنموي الشامل على يد ذات المستعمر الذي كون النواة الأولى لتسيير شؤون الدولة الفعلية ووضع لبنة قيامها وإن بأضعف مما فعل في كل مستعمراته المجاورة والبعيدة الأخرى.
ولما أن المطالب التحررية في القارة السمراء وصلت موريتانيا في وقت مبكر، لم يتح تحقق نضج معرفي متقدم كاف، فقد نالت البلاد استقلالها والماضي المتخلف لا يزال يمسك بتلابيبها ويكبس على أنفاس التحول فيها. واقع استجد على "قديم ـ حاضر" فأظل التعليم الحديث البادئ بأستار رفضه الأعمى دون تكييف الخصوصية الثقافية مع بؤرة نور الحداثة التي هتكت مع ذلك ظلام الماضوية المقيدة. ولقد بدأت منذ تلك اللحظة كل معاناة التعليم ومحنه وإخفاقاته المتلاحقة لا من:
·    ضعف المناهج وقلة تنوعها أو غياب الإنتاج الكثيف من الكتب والأدوات التربوية،
·    تقصير في تنظيم العديد من الملتقيات والأيام التكوينية والتفكيرية والمنتديات، والاصلاحات المتكررة،
·    غياب تكوين الطواقم من المعلمين والأساتذة والمختصين وخبراء التربية،
·     اقتباس أو استفادة من المناهج والتجارب العربية والافريقية والفرنسية،

ولكن من قصور الإنسان الموريتاني عن احتضان الدولة في عقله والعجز المتعمد عن العمل بمقتضى مفهومها طالما لا يزال في العمق يعتبرها سجنا وأن اشتراطاتها قيود تصفده وتحد من حريته وتجني على قدريته واستفادته في عبثية منهاجه الحياتي وفوضوية التعاطي.
 
و عليه فإن  معاناة التعليم لا تكمن مطلقا في ضعف المنهاج ولا في التدني المزعوم لمستويات أفراد الأسرة التعليمية بقدر ما هي المعاناة الكامنة كلها في ضعف إرادة الجميع من مسؤولي الأسرة التعليمية في شتى  مفاصلها عن الارتقاء به من خلال المخرجات الملامسة للحاجة التي يعبر عنها الواقع بكل تجلياته، و تقوقعهم و التلاميذ و الطلاب و أولياء الأمور في العقلية العامة المشتركة التي ما زالت تتسم بثلاثي القدرية المكبلة للإرادة الحية، والفوضى المقيدة لمسار البلد المتعثر عن آفاق الحداثة و حياض الجمهورية و مدرستها، والعـبثية التي تجسد الأفعال و أنها ليست فلسفية إذ لا تعني عدم الإيمان بأن الكفاح الإنساني لا طائل تحته بقدر ما لا تضع ولا تخضع هذا الكفاح لضوابط الفعل الحركي ولا تقيده من أجل استمراره بمسالك محددة ولا تجنبه مزالق السير خوفا من الفشل. أو ليس الأمر أقرب بهذا إلى فشل الانسان منه إلى فشل التعليم؟


 الولي ولد سيدي هيبه



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق